الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي: يجرّون عليها.{ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي: حرّها وألمها. والاستعارة في المس تحقيقية. أو في {سَقَرَ} مكنية، وفي المسّ تخييلية. أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم. واستعارة الذوق مشهورة، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة. و {سَقَرَ} من أسماء جهنم، أعاذنا الله منها.{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [49].{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبباتها، ومنه خلق دار العذاب، لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى. وهذه الآية كآية {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وآية {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَ ى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1- 3]، أي: قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتًا لعظمته تعالى، وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده، ويرهب بأسه، ويتقى بطشه، لا سيما وقد صدَع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر.{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [50].{وَمَا أَمْرُنَا} أي: الذي به الإيجاد {إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي: كلمة واحدة يكون بها كل شيء، بمقتضى استعداده، كلمح بالبصر في السرعة. قال القاشانيّ:{إِلَّا وَاحِدَةٌ} أي: تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن، على وجه معلوم، ثابت في لوح القدرة، المسمّى في الشرع بـ: كن، فيجب وجوده في ذلك الزمان، على ذلك الوجه دفعة. انتهى.وقيل: معنى الآية، معنى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77].{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [51].{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} أي: أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة.قال الشهاب: أصل معنى الأشياع جمع شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد، أريد به ما ذكر، إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة.{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: متعظ بذلك ينزجر به.{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [52].{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي: الكتب التي أحصتها الحَفَظة عليهم.{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [53].{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أي: من الأعمال {مُسْتَطَرٌ} أي: مسطور لا يمحى ولا ينسى، كما قال تعالى: {وَيَقولونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقوله سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقرأ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13- 14].وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبًا».قال ابن كثير: ورواه النسائيّ وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا، من وجه آخر. ثم قال سعيد: فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبًا فاستصغره، فأتاه آت في منامه، فقال له: يا سليمان!
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [54- 55].{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداءِ فرائضه، واجتناب نواهيه، {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: أنهار. واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل. وقرئ بسكون الهاء، وضم النون، وقرئ بضمهما.{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} قال ابن جرير: أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم.وقال الزمخشريّ: في مكان مرضي. قال شراحه: فالصدق مجاز مرسل في لازمه، أو استعارة. وقيل المراد صدق المبشِّر به، وهو الله ورسوله. أو المراد أنه ناله مَن ناله بصدقه وتصديقه للرسل، فالإضافة لأدنى ملابسة.{عِندَ مَلِيكٍ} بمعنى مالك. قال الشهاب: وليس إشباعًا، بل هي صيغة مبالغة كالمقتدر {مُّقْتَدِرً} قال القاشانيّ: أي: يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.قال الشهاب: في تنكير الاسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة، بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان. اهـ.
|